بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 17 يوليو 2011

عن كوستي / من سجلات بوستات الإنترنيت



إلى حبيبتى كوستى فى مئوية شجونها

كوستى يا تراتيل الوداع النازفة .. ويا قطار الغرب تداعى لتصحو المدينة

إلى الشاعر محمد المكي إبراهيم

فوانيسي الأولى، افتتح بها دفتر من دفاتر الطفولة، كوستى تلك التي علمتني أبجدية الرحيل. وقطار الغرب ذاك الحنين الذي يسند ظهره المنهك يستجم لساعات طوال على ظهر السكة حديد بكوستى..
مشهد أول حميم

كوستى السكة حديد مكتظة حتى فوهة نشيدها العمالى ببشر حميم، سحنا تهم مختلفة ولهجاتهم تتداخل فى تم تم ورنين، فمنذ طفولتي المبكرة تعلقت بجدتي أول من علمتني أنشودة الصمود والهامة التي تحتضن الفقراء والصغار والنساء الكادحات، علمتني تفاصيل المحنه ودندنة أغنيات الغلابة وحفظتني أناشيد الوداع وتراتيل الرحيل، فما أن تبدأ الإجازة الصيفية يختلج حزني بفرحي، فرحى بالسفر بقطار الغرب وحزني لفراق مدينتي الهادرة على وترين من النهار ودندنة السماكيين، أبكى منتحبة وكأني لن أعود إلى حضنها، هل قرأ قلبي اليافع حيينها بان هذا الفراق سيمتد إلى بلاد ما أنزل الله لها من سلطان السكينة وراحة الخاطر.

ليلة السفر لا يغازل النوم عيوني، أظل أعدّ الدقائق والثواني وأسالها عشرات الأسئلة

متى يأتي القطار

متى نذهب للسكة حديد؟

متى سيغادر بنا؟

هل سيأتي مكتظاً كالعادة؟

وبحنية تدعوني للصمت وان أكف عن { رص الكلام الكثير}؟

وتمر ساعات

تغرب الشمس وعلى حافة غروبها يدندن التاكسي إيقاعات الوداع

تأخر القطار

المطر كثير والخير وافر فى غرب البلد سمعت جدتي تحكى مع امرأة أخرى محملة بالويكة والويكاب والفسيخ ودهن الكركار
مشهد بذرة الحكى
هناك من افترش ساعده، حاجة مسنة { كومت} ثوب الرزاق تحت رأسها المنهك والمكدود بانتظار ساعات الفرج.

السكة حديد تكتظ بالمودعين والمسافرين، بشر حميم يقتسمون التسالي ويفسحون لبعضهم فى الكنبات، ذاك الفتى يفسح مجالا لجدتى وهى تلهج له بالدعاء { يديك العافية ويخلى لينا فى كل بلد ولد} ، لقد صادفت دعوتها صلوات الصالحين والملائكة واستجيبت الدعوة.. من كادقلى إلى لوس انجلس جعل الله لجدتي ولداً، تبعثروا فى كل بقاع الأرض كالعقد الفريد
شخير ذاك الرجل يختلط بصوت مكنات القطارات المحلية التي تروح وتأتى كالشهقة وزفرتها، هناك تحت شجرة النيم الظليلة يحكون، يضحكون ويتهامسون، ينتزعهم من جلستهم المسترخية عضلاتها صفارة القيام، اتثآب وفى عيوني مقاومة باينة للنعاس، القطار مكتظ كعادته
{ والمشمعيين} يسترخون وينادون لبائع الشاي
بنات الفلاته يدندن بنغمة مدوزنه على الطعمية والفول المدمس ويا تسالي يا
الزحمة
تبدأ الشجارات
يا جماعة استهدوا بالله
يا ولدى قطعت قلى، عفصتك ذي العقرب
يا حاجة ماشايفك، العربية مافيها نور
الكل يتسابق ليفوز بمكان يسند عليه الجسد المنهك والروح التواقة لرؤية الأهل.. كانت الدنيا بخيرها
تهدر عجلات القطار بأحلام عمال السكة حديد
حاشية للتاريخ

بيوت السكة حديد المفتوحة على مصرع الكرم، المستورة الحال والقانعة { بالقاسمه ربنا}، سعت الراحلين والقادمين، رحابة النفس ورائحة الطعام الشهية حين تنهز المصارين من الجوع، الزلابية بشاي اللبن، الفول والجود بالموجود.. كم هم كرماء، وجه تلك المرأة يستحوذنى الآن، إحتنضنتنى ودمعة حارة انسابت على أخدود خدها وأنا أمدّ لها يدي الصغيرة مودعة، كأنها تعرفني منذ الميلاد، كأني ولدت فى حجرها.. كم كان حضنها دافئاً، أتتشبث به فى ذاكرتي كلما قرصني زمهرير هذه البلاد فى روحي.. يوم ما شردت خاطرتي عندها، أدمعت وأنا أحدق فى المرأة التي كانت تجلس قبالتى تداعب فى كلبها المهذب جدا وتهز فى رأسها من جنون هذه {الخادم الأفريقية}
تهدأ الشجارات
تخفت الأصوات العالية
تبدأ الحكايات
عجوزان يحكيان عن عنبر جودة، انسربت فى حكايات جدى الذي كان يعمل شرطيا وفقد حيينها عينه اليمنى التي بقيت تحكى عن تاريخ مازال يحزنني ويبكيني، هناك آخرين يحكون عن موسم الفول والكردي وقصب السكر، يا حلاوة {العنكوليب} فى كوستى.
يقسمون بالطلاق الثلاثة يتجادلون ويضحكون ويحلمون بزمن الحصاد، آه كان أهل قطار الغرب يأكلون مما يزرعون.
قبالتى تجلس امرأتين، تحمل إحداهن طفلها الوليد يحيكين ويتهامسن وتتقلص وجوههن تارة وتنفرج أخرى ووجهي الصغير يتقلص وينفرج مع درامية خصوبة الحكى. العروسة الصغيرة، يفوح صندلها ويلمع وجهها المدهون، يبان عليها التعب والتوجس، عندما كبرت خمنت بأنها كانت تجتر حكايات النسوة وهن يعدنها لزوجها ذو الشوارب الكثة. الحناء تلمع فى يديه وهو يقسم ثلاثة بالطلاق أن تقبل المرأة العجوز فبالتهما بفخذ دجاجة أعدت خصيصا للعروسيين.
ما كان يشغلني حيينها أن يتركنا الكبار نلعب كما نشتهى، وبما أن النوم كان مستحيلاً حين تهدأ عجلات القطار، فالبعوض الشهير لايترك عاداته فى الطنين والأنين، يزحف قطار الغرب.. جبل أموية، جبل دود سنار التقاطع، سنار المدينة ويحتل فى والحداد، الحاج عبد الله فيها مشكلة سمعتهم يحكون.
يغادر البعض فى سنار
وداع ودموع
سماح وغفران
أعفى لي النبي
الموت والحياة ما معروفة

من ثنايا رقراق الدمع يكتتبون عناوينهم ويتبادلونها
والصبية التي اختلست طرفة حلم لذي العشرين ربيعاً وتورد قلبها وأندلق الدم حاراً وهى توارى دمعتها وقدميها تتعثران وهى تغادر باب القطار.. آه لو كان فارس الحلم، شخصت ببصرها وهو يدس ورقة صغيرة فى يدها يبثها لهب من وميض عينيها، تعويذة العشق الأول، الآن أعرف سر فرهدة خديها، قطار الغرب يشد الرحال بصبر ووفاء، لا يكل ولا يمل، وهب تلك الصبية دفء ذو مزامير.
عم الكمساري، صارم القسمات يأتي

يقسم أن لم تدفع فارق التذكرة أن تغادر القطار المحطة القادمة
لا على اليمين انزلك فى جبل دود وان ما عجبك فى النص
الرجل الخمسيني يحاجج، يشرح الظروف القاسية الوجه الصلب تنفرج أساريره
يسأله من أهله
يحكى له عن نيالا
{يا سلام، نيالا فيها اهلا عزاز بالحيل، ناس عبد الرسول، بتعرفهم هم اصلهم من الجنينه سكنوا من بداية التمنينات فى نيالا}، يسترسل عم الكمساري، كم تدهشني الآن هذه الأريحية، الكمساري الذي يتجهم وجه حين يغادر قطار الغرب كل الركاب وتتنحنح دمعة تقاوم بكاء الرجال الغلاب.. كم من الرجال يبكى الآن؟ سؤال عارض
عشقي لقطار الغرب كان سرا لعشقي لقطار هولابرون، مدينه فى النمسا السفلي، قطار رغم حداثته، وتكنولوجيته الحديثة، رغم مكنات التدفئة فصقيع الروح لا يدفيئه سوى قطار الغرب.
بشر ذو سحنات مختلفة
من النوبة
من البقارة
الفور
الزغاوة
الجعليين
وأولاد عمهم الدينكا كما كانت تقول جدتي
يتصافحون
يتخاصمون لسويعات ويقتسمون الخبز والحكاية
منهم ومنهن تعلمت دندنات الوداع الحنينه
حين تنجرف دمعة حارة تختصر المسافة من الأبيض للجبلين فى رحابة الناس الطيبين
هي كوستى
هي كما حكانى عنها صديقي الشاعر بانقا الياس وليعزرني للاقتباس،لقد هزته حتى المساس رسائلي وميرفت صحو الغياب وسمندل نشيد الإياب الصعب، فرحت وهو يحكينى كوستى وكأني ما عرفتها، حكانى وفرحت وهو يشجو ضنايا، كوستى مثل جنا الحشا
وعبثا أحاول الآن إيقاف الطوفان بسد من الطين. خاصة أن مد ينة كوستى تربطني بها صلات شعر حميمة في دار المعلمين أنا والشاعر المُجدد حميد وآخرون سافرنا لنقرأ أشعارنا أمام جمهورها المتعطش إلى الكلام الموشى بالتراث والعشق والأحاجي وأحلام الغد. لم أرى جمهورا يتقاطر من كل حدب وصوب للاستماع للشعر مثل جمهور كوستي الذي يجيد الاستماع ولذا كثيرا ما كان يختل برنامجي مع صرامة العمل في البنك لضعفي أمام دعوة المشاركة في ندوة شعرية في كوستي لأنني اخجل أن أرد دعوة الوقوف أمام الجمهور الكوستاوي، غير إني أعملت فأس نقدي الفلاح في أشجار شعري المتشابهة وطبول موسيقاه التقريرية الهاتفة وتركت فن الغناء لمن يجيدونه، وأنني لعل ثقة تامة أن ذات الجمهور الكوستاوي إذ التقتيه فلن يعرفني وإني لو سقطت من الشمال الآن فلن اصل إلى الجمهور الكوستاى بعد مليارات السنوات الضوئية، حتى اسمي استعاد ذاتيته وهجرني رامبو مع شعره إلى الأبد ، برغم أنني اجدني متلبسا في حالة شعرية كلما لامسني شفيف كلام من منوال ما تكتب ميرفت وإشراقة} }
شكراً
وشكراً لكوستى المدينة التي علمتني أبجديات العشق وأناشيد الطفولة
بائعات الكسرة بالسوق الصغير
كن ومازلن يطعمن حياتي بتفاصيل الكفاح اليومي
حليمة بت أب شالية جدتي
حاجة الله معانا   

حواء بت النسيم 

الجزراين

بائعي الكجيك الجديد

بائعات الفسيخ

وعم حسين الطيب، صنو عم عبد الرحيم

الحطابات جوار المقابر

أستاذ أحمد محمد الحسن طويل البال عميق الفكرة كأبينا محمود

كوستى.. زينة، أضواء المدينة.. مكتبة رحمي

ميدان الحرية

{ كل الأشياء لها لون القبر}

لان كوستى صنو عطبرة علا صوتها {لا تصالح ولو منحوك الذهب}

لم يهتم بها الحكام بل أرادوا لها الفناء

لان صحو الفكرة قادها الجمهوريين

لان حركة اليسار فى كوستى تحكى

لهذا مازالت تحمل ملامح القبر، يهلكها الجوع والفقر والملاريا وقسوة الحكام

ومع ذلك تبقى كوستى

ويبقى أهلها الطيبين

ونساؤها جميلات الروح الصادحات بقيامة الفجر

تبقى كوستى صنديدة

عنيدة

لاتصالح

وإن كانت على شفا حفرة من القبر

ولكل ذلك شاعرنا محمد المكي إبراهيم

لا ننصرف بلا وداع

ولانشتجر على الكنبات

التم تم وتومات كوستي




نقلاً عن: صحيفة السوداني الدولية –العدد رقم: 1111 تاريخ 2008-12-17 
حركيها يا البنية .. راقصتان من كوستي


كوستي مدينة الفن أصابتها منذ نشأتها حمى الإيقاع.. فكان التم تم.. النغم الأشهر في الغناء السوداني مولوداً في أرض كوستي. وكغيرها من مدن السودان عشقت حقيبة الفن.. فظهر فيها مطربون في ذلك الوقت يؤدون هذا اللون من الغناء.. وفي كوستي عاش الشاعر الكبير إبراهيم العبادي ومحمد احمد سكسك.. وزارها وأطرب أهلها كل من كرومة وسرور وزنقار.. ومن أوائل المطربين في كوستي زكريا أبو بكر الخلوصي كان والده قاضي علي دينار.. (كان في الأصل مادحاً مع القادرية وكان له صوت جميل).. ومحمود قيلي وكان يلقب (بلبل السودان).. وكان قد سجل بعض الأسطوانات في مصر، وأحمد عبد الزين، وعثمان أبو حراب وأحمد محمد صالح الدسوقي ومحمد ابو زيد وعوض شمبات.
التم تم.. والتومات
كانت تلك هي الصورة التقليدية في كل المدن، وهي الاهتمام بالغناء وغناء الحقيبة قبل ظهور الآلات الوترية التي وفدت إلينا من مصر.. إلا أن بعض المدن تميزت بفنون شعبية هي جزء من طقوس أو عادات بعض القبائل. وفي كوستي حدث ما يشبه حمى (الروك آند رول) التي أصابت أوروبا وأمريكا في النصف الأول من هذا القرن.. وصرعات (الجيرك) وحديثاً الديسكو. وكان ذلك عام 1932م.
يروي العم عبد المطلب آدم موسى يقول: كنت خارج كوستي في عمل بالدويم ووصلتني رسالة من صديق في أكتوبر عام 1932 وهو الوقت الذي ظهرت فيه التومات.. والتومات هما فتاتان قدمتا إلى كوستي من واو واستقر بهما الحال في رديف كوستي القديم. والرسالة تحدد التاريخ الذي ظهر فيه غناء التم تم، أو هو حركة الرقص مع غناء وإيقاعات التم تم، وهو إيقاع عالمي معروف بهذا الاسم.. وذكر الصديق أنه ظهر في كوستي ما أسماه في رسالته "بلعب جديد اسمه التم تم" ووصف لي حالة المدينة التي تقضي وقتها كله في الرقص والغناء مع التومات.
وعدت إلى كوستي- يقول العم عبد المطلب آدم موسى- ووجدت المدينة في حالة أشبه بحالة (الدساتير).. هكذا يصف حمى التم تم في كوستي..
التومات
هما شقيقتان توأمتان من بنات 15 أورطة من عساكر الرديف. اسم الكبرى التومة أم زوائد ويقال إنها ولدت بإصبع زائد في إحدى يديها.. لذا سميت بأم زوائد.. والصغرى التومة أم بشائر.. والدهما شيخ جريقندي، والتومات مشلخات كما يصفهما العم عبد المطلب.. وبهما مسحة من الجمال ظاهرة. والباحث الطيب محمد الطيب يقول إن التومات أصلاً من دنقلا، إلا أن كل الروايات تشير إلى وصولهن الى كوستي مع اسرة من عساكر الرديف، وكان موطنهن مدينة واو بجنوب السودان.
في كوستي سكنت التومات بمنزل الحاج حميدة في المرابيع والذي أصبح نادياً للعمال ثم لوكاندة كوستي حالياً.، وكان ذلك بالإيجار.. ويقول الحاج مكاوي حميدة إنهم اتفقوا على طردهم من البيت، وبالفعل أخرجهما شرف الدين محمد مساعد المفتش، ثم اشترى لهما بعض التجار منزلا في المرابيع وحدثت فيه جريمة قتل المرحوم عثمان موسى وتحول إلى زاوية ثم إلى مسجد عثمان موسى الحالي. وشهدت ايامهما في كوستي صراعات بين المسؤولين وبين بعض التجار الذين كانوا يقضون سهراتهم في بيت التومات ويشكلون لهن حماية خاصة، ودخل بعضهم السجن بسبب حمايته للتومات.
ومن خلال بعض الأغنيات التي حصلت عليها استطيع أن أقول إن التومات مارسن الغناء الذي نسميه اليوم أغاني البنات والذي انتشر في الثلاثينيات والأربعينيات، وأرود بعض هذه النماذج:
يا ست العربية 
حركيها يا البنية
و..
ببكي وبهاتي
من المحطة ولي فريق القطاطي
وعربيتك الصالون خضرة وجميلة لون
والله لي كوريا – يا شباب كوريا
ويا سيد الكرفتة
من ستة لي ستة


وكانت التومات راقصتان وصاحبا صوتين جميلين.. وعموماً فلقد شكلن ظاهرة اجتماعية أكثر منها ظاهرة فنية. وعلى نفس الدرب ظهرت بعض المغنيات على طريقة التومات مثل رابحة في الرديف، ومريسيلة ام احمد، وفي فترة لاحقة عائشة كع.