بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 1 أبريل 2014

كوستي - وخواجة كوستي/ حي المرابيع

اسم كوستي الذي اطلق على المدينة حسب روايات أهل كوستي الموثقة يرجع الي الخواجة الاغريقي كوستي. الذي كان يمتلك دكانا لبيع الخردوات في بداية القرن الماضي بالقرب من ضفة النيل الأبيض في الجهة الغربية. لم تكن بقعته التي نزل بها عمرت بالسكان بعد ولكنها كانت ملتقى طرق ومكان استراتيجي للعابرين من الشمال الى الجنوب و للعابرين من الشرق للغرب. فكان الناس خاصة من الضفة الشرقية للنيل الأبيض حول قرية زينوبة عندما يأممون وجوههم غربا لعبور النهر يقولون إنهم ذاهبون للشراء من الخواجة كوستي وهكذا عرف الأهالي والعابرين بموقع خواجة كوستي وأهميته. بعد ذلك عمّ وانتشر الخبر حول المنطقة وفضل البعض من الأهالي الرحيل والسكن بالقرب من المنطقة والتي لها ميزات أخرى كثيرة تمكنهم من تكييف وتوطين حياتهم الجديدة والتي هي أصلاً حياة بسيطة قابلة للترحال حسب ظروف الناس المعيشية في ذلك الوقت. علاوة على ذلك فقد كان لتشيد وعبور خط السكة الحديدية بنفس منطقة الخواجة كوستي أثرها البالغ في الدفع بالمنطقة خاصة بعد قدوم هجرات معتبرة لها من مناطق مختلفة بحثا عن فرص العمل الجديدة التى وفّرها الفتح الجديد من خط السكة الحديد وإنشاء ميناء حديث للنقل النهري

مع قدوم وتزايد الهجرات نحو المدينة الجديدة بدأ بالطبع تشكل الحياة واستيطان المدنية فيها فقدم لها الأجانب خاصة الإغريق والهنود والمصريين لاستكشاف الرزق الجديد فيها

كان حي المرابيع الذي يمتاز بقربه من نهر النيل الأبيض حيث تجري القطارات صباحا ومساءً وبواخر النقل النهري التي تتجه صوب الجنوب من محطة البداية، كوستي، وكذلك قربه من السوق، جعل هذا الحي يتبوأ مكانة سامقة في نفوس أهالي كوستي.بعقليتهم التجارية استوطن التجار الإغريق والهنود والمصريين هذا الحي خاصة بعد أن استوثقوا من سلامتهم وسلامة ممتلكاتهم وقبول أهالي الحي لهم بمعتقداتهم وموروثاتهم الثقافية المختلفة

السيدة بوبي التي سكنت في هذا الحي مع زوجها الخواجة سابا كانا من ضمن ثلة من الإغريق سكنوا هذا الحي. يقع البيت الذي سكنا فيه في العشرة الأولى من العشرة التي كانت فيها مطبعة التيجاني النور وطاحونة حامد محمود وهي من ناحية تقع جنوب السوق مباشرة وأنت متجه من الجنوب للشمال. شمال البيت مباشرة كان بيت السيد الأمين العقاب أحد اعيان مدينة كوستي، وقد كان أطفال الحي يعرفون المنزل، بمنزل "ست أبوها" وهي زوج العم الأمين العقاب.وجنوب البيت كان منزل السيد أحمد دين الذي كان يعمل سائقا لعربة إسعاف مستشفى كوستي-كومر-وهووالد مدلك الفريق القومي المشهور فاروق دين، أما غرب البيت فقد كان يقع منزلنا والذي لا يفصلنا سوى حائط عن بيت الأغاريق هذا. في شارعهم إلى الجنوب منه سكنت أسرة إغريقية أخري وهو الخواجة يني كرياكو وأسرته وهو الذي أشترى متجر الخواجة الإغريقي بنايوتي ماماكوس الذي كان يسكن أيضا في الحي بعد أن غادر إلى اليونان. الخواجة يني من  من أفراد أسرته أبنائه منولي ومايكل ومن بناته ايلسا وميري وجاكلين. وفي الشارع الذي يقع خلف منزلهما وهو شارعنا سكن هناك الخواجة الاغريقي ابو نجمة وهذا أسم متجره ولكن لا أعرف اسمه الحقيقي كذلك سكن جنوب منزلنا في نفس الشارع خواجه اغريقي عمل لفترة قصيرة كمهندس في محلج الأقطان مع أسرته ثم غادر ليأتي بعده الإغريقي جورج الذي كان له دكان صغير لإصلاح الراديوهات! وفي نهاية الشارع سكن خواجة اغريقي آخر عمل كمهندس مع شركة الأحمدين وكان يقوم باعمال الصيانة لمعاصر الزيوت والقشارات التي تتبع للشركة

منذ ان كنت طفلا ثم يافعا كنت أشاهد هذه السيدة مرات في شوارع الحي أو في السوق ومرات نادرة تاتي لزيارتنا لأمر هام. كانت سيدة تقريبا في منتصف العمر قصيرة القامة متوسطة الحجم مع أنها تميل قليلا الى النحول. لها وجه مستدير وشعر جلده البياض في أكثر من موقع وكانت في معظم الأحيان تجمعه وتربطه على شكل ذيل حصان. كانت جميلة من غير تكلف وتلبس دائما ملابس أوربية هادئة حسنة الألوان. عند ارتفاع درجة الحرارة في الصيف كانت تضع اشارب على رأسها. كانت كثيرة الحركة داخل منزلها كأنها نحلة لا تكل ولا تمل.وكنا نسمع حركتها داخل منزلها كأنها أكثر من شخص. فمرة نسمع غسيل الأواني ومرة أخرى نسمع دخولها أو خروجها من المخزن ومرة أخرى نسمع حديثها مع كلابها. كان بالبيت عدد من الكلاب نسمع السيدة بوبي وهي تتحدث اليهم كأنهم أبنائها البررة. أحيانا توبيخ وأحيانا تشجيع وتثمين لمواقف تعرفها هي.ثم نسمع استجابة كلابها باصوات مختلفة مرة بنباح متقطع بصوت منخفض ومرة بأصوات كأنها صهيل مخنوق. ومع أن حديثها لكلابها كان يتم عبر اللغة الإغريقية ولكن كأني افهم ماذا تريد وماذا ترتجي!!؟ كان مباشرة بعد الحائط الذي يفصلنا تقع حديقتهم الغناء الجيدة التنسيق وبالقرب منها كانت تزرع بعض أنواع الخضروات كالبقدونس ، وسطها كان هناك قفص متوسط بداخله مجموعات متنوعة من الطيور الجميلة خاصة طيور الجنة بألوانها الزاهية. في كثير من الأحيان عندما تهدأ حركتها كنت لا أسمع صوتها إلا لماما وكنت كثيرا ما أسمع صوت خميس الذي يعمل معهما في البيت وفي المتجر وهو يسقي الحديقة عند العصريات. كنت من الأشقياء، أحيانا اتسلق الحائط لأرى ماذا يدور هناك في الجانب الآخر وكنت لا أجد إلا الويل والثبور والتهديد بعظائم الأمور من جدتي وكانت من توبيخاتها ان احترم حرمات البيوت! كنت صغيرا ولا أعرف ما معنى حرمات!! كانت في منزلنا بالقرب من الحائط شجرة نيم وارفة الظلال كبيرة، كنت أوهم جدتي بأني أريد أن اتسلق الشجرة فقط، ولكن في خصاصة نفسي كنت أتوق لأعرف ماذا يدور في هذا البيت السحري!. ولكن كانت كل حيلي تبؤ بالفشل فكانت جدتي تزجرني كل مرة وهي تشاهدني اتسلق الشجرة. كانت السيدة تزور بيتنا نادرا ولكن كانت كثيرا ما تتحدث عبر الحائط مع والدتي وجدتي وأخواتي. في أيام عيد الميلاد المجيد كانت تنادي علينا بلكنة عربية محببة فيها كثير من الحرف "خ" تفضلوا كيكة عيد الميلاد بلونها الأخاذ المزين بفواكه لا توجد في كوستي. ما يزال طعمها في فمي رغم مرور السنين. لا نعرف اسما كاملا لهذه السيدة الفاضلة غير اسمها الأول السيدة بوبي وكذلك زوجها الخواجة سابا. فقط ارتبط كل واحد منهما واندمج في الآخر في تناغم وتجانس جميل جسد بحق اسمى معاني الحب والوفاء والمروءة. لا نعرف لهما ذرية تذكر أو أقرباء يزورونهما في أيام العطلات كما هو الحال عند معظم الناس. السيدة بوبي مع الاحتفاظ بخصوصيتها إلا أنها كانت تزور بعض الأسر والجيران في الحي خاصة البيوت القريبة من بيتها. أما زوجها الذي يبدو أنه يكبرها قليلا فطبيعة عمله لا تسمح له بزيارات اجتماعية كما تفعل زوجه فهو يعمل بطريقة دوامين يوميا 7 أيام في الاسبوع.    فترى حركته وخطواته الوئيدة وكأن المرض أخذ منه ما أخذ، مع أنك تجده في كامل بهائه، الرداء الكاكي والجوارب الناصعة البياض وحذاء الجلد اللامع وعادة بني غامق مائل الى الحمرة. كان الخواجة سابا شديد العناية بنفسه فهو يتخير جميل الثياب ويصفف شعره بعناية بالغة دون أن يعير أية التفاتة لبياض شعره الذي هزم سواده مع عدم اغفال التعطر بغالي العطور كلما خرج. في النصف الثاني من السبعينات كنت عندما أرى السيدة بوبي وقد شحب لونها وغلب بياض شعرها على سواده وإن لم يقل نشاطها كانت هناك قد ارتسمت لمسة حزن ظاهرة خيمت على وجهها وقل ضحكها الذي كان ينبع من الأعماق ببراءة وعفوية. كنت أضحك لضحكتها وليس عما اذا كانت تضحك!. أصبحت في تلك الأيام تلبس السواد من الثياب وكنت اتساءل ماذا حدث لتلك السيدة الجليلة هل توفى أحد أقربائها أو هل هناك كربة المّت بها ونحن لا نعرف؟

كنت عندما أذهب أحيانا في الصباح لمخبز آدم حمزة لشراء الخبز كنت أجدها هناك وهي تجلس على كرسي خشبي وتنتظر خبزها الذي أحضرته كعجائن فقد كانت طاهية وخبّازة ماهرة. كنت أراها وهي تتجاذب أطراف الحديث مع العم آدم حمزة الذي يكون دائما متكئا على سريره الخشبي أمام المخبز. الخبز الذي كانت تحضره عجائن كان لا يشبه خبزنا، فهو خبز عريض وطويل ومنتفخ ويميل لونه للون البني المشرّب بالحمرة. كنت أقف طويلا وأنظر له فقد شاهدت هذا النوع من الخبز في الأفلام الرومانية!! مرض الخواجة سابا وأصبح لا يقوى على السير الى عمله فلزم بيته. كانت السيدة بوبي تقوم برعايته فكانت نعم المعين ونعم الراعية وكيف لا فهو خليلها وصفيها الذي وهبت حياتها وتركت أهلها ووطنها من أجله. لم يكن مرض الخواجه سابا هو مرضه الأول فقد مرض كثيرا في الماضي وقضى أياما وليال ثم تعافى ورجع لطبيعة عمله ونشاطه المعهود. فقد كنا نسمع كيف تمكنت منه نوبات السعال التي كانت تنتابه من وقت لآخر في ليال ماضية فكان يتحملها بجلد. الى أن جاء يوم وقالت أحدي الفتيات من أسرة السيد ابكر عثمان والتي كانت تسكن في منزل قبالة منزل السيدة بوبي بأن السيدة بوبي دخلت عليهم وهي في حالة هلع وتوتر، لتخبرهم بأن الخواجة سابا مريض جدا وتريد مساعدة عاجلة. هرعت اليها الأسرة ودخلوا بيتها ليجدوا الخواجة سابا قد فارق الحياة. لم تمكث السيدة بوبي كثيرا بعد ذلك فقد باعت أغراضها ومتاعها ورحلت إلي اليونان لقضاء باقي العمر بعد رحيل صنو روحها الخواجة سابا. رحلت وغادرت حي المرابيع ومدينة كوستي التي لم تعشق ولم تعرف سواها. فتركت أثرا طيبا خلّده وشهد به كل أفراد الحي الذين ما أن سمعوا بفاجعتها إلا واعتبروها فاجعتهم وخطبهم الجلل. فسلام على السيدة الجليلة بوبي أنى كانت، ورحمة عليها إذ أخذ الرب وديعته. وألف وردة وألف رحمة تغمر زوجها الخواجة سابا الذي أرخ لأول إغريقي يموت ويدفن في مدينة كوستي التي اعتبرها مدينته ووطنه.
عمر عبد الله محمد علي
مونتري-كلفورنيا
5/30/2013

omerabdullahi@gmail.com